كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



إرضاء لكبريائكم، أو مسايرة لتقديركم الأرضي وقيمكم العرضية.
{الله أعلم بما في أنفسهم}..
فليس لي إلا ظاهرهم، وظاهرهم يدعو إلى التكريم، وإلى الرجاء في أن يؤتيهم الله خيراً..
{إني إذن لمن الظالمين}..
إن إدعيت أية دعوى من هذه الدعاوي. الظالمين للحق وقد جئت أبلغه؛ والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب الله؛ والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم الله.
وهكذا ينفي نوح عليه السلام عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة. ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية. ويردهم في نصاعة الحق وقوته، مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها، ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها. بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة. فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعاً نموذجاً للداعية ودرساً في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد، دون استرضاء لتصوراتهم، ودون ممالأة لهم، مع المودة التي لا تنحني معها الرؤوس!
وعند هذا الحد كان الملأ من قوم نوح قد يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة؛ فإذا هم على عادة طبقتهم قد أخذتهم العزة بالإثم، واستكبروا أن تغلبهم الحجة، وأن يذعنوا للبرهان العقلي والفطري. وإذا هم يتركون الجدل إلى التحدي:
{قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}.
إنه العجز يلبس ثوب القدرة، والضعف يرتدي رداء القوة؛ والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الإستهانة والتحدي:
{فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}..
وأنزل بنا العذاب الأليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك، ولسنا نبالي وعيدك.
أما نوح فلا يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم، ولا يقعده عن بيان الحق لهم، وإرشادهم إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم، وردهم إلى هذه الحقيقة وهي أنه ليس سوى رسول، وليس عليه إلا البلاغ، أما العذاب فمن أمر الله، وهو الذي يدبر الأمر كله، ويقدر المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله، وسنته هي التي تنفذ.. وما يملك هو أن يردها أو يحولها.. إنه رسول. وعليه أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الأخيرة، فلا يقعده عن إبلاغه وبيانه أن القوم يكذبونه ويتحدونه:
{قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون}..
فإذا كانت سنة الله تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم، فإن هذه السنة ستمضي فيكم، مهما بذلت لكم من النصح. لا لأن الله سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح، ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة الله تقتضي أن تضلوا، وما أنتم بمعجزين لله عن أن ينالكم ما يقدر لكم، فأنتم دائماً في قبضته، وهو المدبر والمقدر لأمركم كله؛ ولا مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه:
{هو ربكم وإليه ترجعون}..
وعند هذا المقطع من قصة نوح، يلتفت السياق لفتة عجيبة، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة، التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ودعواهم أن محمداً يفتري هذا القصص. فيرد هذا القول قبل أن يمضي في استكمال قصة نوح:
{أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعليّ إجرامي وأنا بريء مما تجرمون}..
فالافتراء إجرام، قل لهم: إن كنت فعلته فعليَّ تبعته. وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعد أن أرتكبه، وأنا بريء مما تجرمون من تهمة الافتراء إلى جوار غيرها من الشرك والتكذيب.
وهذا الاعتراض لا يخالف سياق القصة في القرآن، لأنها إنما جاءت لتأدية غرض من هذا في السياق.
ثم يمضي السياق في قصة نوح؛ يعرض مشهداً ثانياً. مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره:
{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون}..
فقد انتهى الإنذار، وانتهت الدعوة، وانتهى الجدل!
{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}.
فالقلوب المستعدة للإيمان قد آمنت، أما البقية فليس فيها استعداد ولا اتجاه. هكذا أوحى الله إلى نوح، وهو أعلم بعباده، وأعلم بالممكن والممتنع، فلم يبق مجال للمضي في دعوة لا تفيد. ولا عليك مما كانوا يفعلونه من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء:
{فلا تبتئس بما كانوا يفعلون}..
أي لا تحس بالبؤس والقلق، ولا تحفل ولا تهتم بهذا الذي كان منهم، لا على نفسك فما هم بضاريك بشيء، ولا عليهم فإنهم لا خير فيهم.
دع أمرهم فقد انتهى..
{واصنع الفلك بأعيننا ووحينا}.
برعايتنا وتعليمنا.
{ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون}..
فقد تقرر مصيرهم وانتهى الأمر فيهم. فلا تخاطبني فيهم.. لا دعاء بهدايتهم، ولا دعاء عليهم وقد ورد في موضع آخر أنه حين يئس منهم دعا عليهم، والمفهوم أن اليأس كان بعد هذا الوحي فمتى انتهى القضاء امتنع الدعاء..
والمشهد الثالث من مشاهد القصة: مشهد نوح يصنع الفلك، وقد اعتزل القوم وترك دعوتهم وجدالهم:
{ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم}..
والتعبير بالمضارع. فعل الحاضر.. هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته. فنحن نراه ماثلاً لخيالنا من وراء هذا التعبير. يصنع الفلك. ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرون به فيسخرون. يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم: إنه رسول ويدعوهم، ويجادلهم فيطيل جدالهم؛ ثم إذا هو ينقلب نجاراً يصنع مركباً.. إنهم يسخرون لأنهم لا يرون إلا ظاهر الامر، ولا يعلمون ما وراءه من وحي وأمر. شأنهم دائماً في إدراك الظواهر والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير. فأما نوح فهو واثق عارف وهو يخبرهم في اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلاء أنه يبادلهم سخرية بسخرية:
{قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون}..
نسخر منكم لأنكم لا تدركون ما وراء هذا العمل من تدبير الله وما ينتظركم من مصير:
{فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يوم مقيم}..
أنحن أم أنتم: يوم ينكشف المستور، عن المحذور!
ثم مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة:
{حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم}.
وتتفرق الأقوال حول فوران التنور، ويذهب الخيال ببعضها بعيداً، وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة. أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل، في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص، وفي حدود مدلوله بلا زيادة.
وأقصى ما نملك أن نقوله: إن فوران التنور والتنور الموقد قد يكون بعين فارت فيه، أو بفوارة بركانية.
وأن هذا الفوران ربما كان علامة من الله لنوح، أو كان مصاحباً مجرد مصاحبة لمجيء الأمر، وبدءاً لنفاذ هذا الأمر بفوران الأرض بالماء. وسح الوابل من السماء.
لما حدث هذا {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين...} كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح بمراحلها واحدة واحدة في حينها. فقد أمر أولاً بصنع الفلك فصنعه، ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه، ولم يذكر أنه أطلع نوحاً على هذا الغرض كذلك. {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور}.. أمر بالمرحلة التالية..
{قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن}..
ومرة أخرى تتفرق الأقوال حول {من كل زوجين اثنين} وتشيع في الجو رائحة الإسرائيليات قوية. أما نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص: {احمل فيها من كل زوجين اثنين}.. مما يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء. وما وراء ذلك خبط عشواء..
{وأهلك إلا من سبق عليه القول}..
أي من استحق عذاب الله حسب سنته.
{ومن آمن}..
من غير أهلك.
{وما آمن معه إلا قليل}..
{وقال اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها}..
فنفذ الأمر وحشر من حشر وما حشر.
{وقال اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها}.. وهذا تعبير عن تسليمها للمشيئة في جريانها ورسوها، فهي في رعاية الله وحماه.. وماذا يملك البشر من أمر الفلك في اللجة الطاغية بله الطوفان؟!
ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب: مشهد الطوفان:
{وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}..
إن الهول هنا هولان. هول في الطبيعة الصامته، وهول في النفس البشرية يلتقيان:
{وهي تجري بهم في موج كالجبال}..
وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم، وتستيقظ في كيانه الأبوة الملهوفة، ويروح يهتف بالولد الشارد:
{يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين}..
ولكن البنوة العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل:
{قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء}..
ثم ها هي ذي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر ترسل النداء الأخير:
{قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}.
لا جبال ولا مخابئ ولا حامٍ ولا واقٍ. إلا من رحم الله.
وفي لحظة تتغير صفحة المشهد. فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء:
{وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.
وإننا بعد آلاف السنين، لنمسك أنفاسنا ونحن نتابع السياق والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد. وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء. وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب!
وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية بين الوالد والمولود كما يقاس بمداه في الطبيعة، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان. وإنهما لمتكافئان، في الطبيعة الصامته وفي نفس الإنسان. وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن.
وتهدأ العاصفة، ويخيم السكون، ويقضى الأمر، ويتمشى الاستقرار كذلك في الألفاظ وفي إيقاعها في النفس والأذن:
{وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجوديّ وقيل بعداً للقوم الظالمين}..
ويوجه الخطاب إلى الأرض وإلى السماء بصيغة العاقل، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الأرض، وتكف السماء:
{وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي}.
{وغيض الماء}..
ابتلعته الأرض في جوفها وغار من سطحها.
{وقضي الأمر}..
ونفذ القضاء.
{واستوت على الجودي}..
ورست رسو استقرار على جبل الجودي..
{وقيل بعداً للقوم الظالمين}..
وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير.. {قيل} على صيغة المجهول فلا يذكر من قال، من قبيل لف موضوعهم ومواراته:
{وقيل بعداً للقوم الظالمين}..
بعداً لهم من الحياة فقد ذهبوا، وبعداً لهم من رحمة الله فقد لعنوا، وبعداً لهم من الذاكرة فقد انتهوا.. وما عادوا يستحقون ذكراً ولا ذكرى!
والآن وقد هدأت العاصفة، وسكن الهول، واستوت على الجودي. الآن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد المفجوع:
{ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين}.
رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين. فلا تقضي إلا عن حكمة وتدبير..
قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله، ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء..
وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها. فالأهل عند الله وفي دينه وميزانه ليسوا قرابة الدم، إنما هم قرابة العقيدة. وهذا الولد لم يكن مؤمناً، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن.. جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد؛ وفيما يشبه التقريع والتأنيب والتهديد: